اغتنم خمسا قبل خمس
اغتنم خمسا قبل خمس فما هي هذه الخمس التي أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم باغتنامها قبل زوالها من أيدينا واستبدالها بأخرى؟ وما السبيل إلى اغتنامها قبل ضياعها؟
هذا ما سيكون مدار نقاشنا في موضوع اليوم إن شاء الله.
اغتنم خمسا قبل خمس
جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين وهدى للمتقين، فلم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم شرًا إلا وقد دلَنا على مخاطره وحذرنا منه، ولم يترك خيرًا أيضًا إلا وقد أمرنا به وحثّنا عليه، وهذا الحديث جامع للشيئين معًا فقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بخمس في العمل بهن خيرٌ لنا وللأمة جمعاء، ونهانا أن نضيع هذه الخمس لئلّا يكون هناك شرٌ لنا وللأمة جمعاء.
ففي صحيح الترغيب والترغيب (وهو كتاب جامعٌ لكثيرٍ من الأحاديث الصحيحة) من رواية الصحابي الجليل عبدالله بن عباس -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ”
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته باغتنام خمسٍ قبل خمس، والاغتنام هنا يعني عدم تفويت الفرصة والأخذ بها قبل ذهابها، فكلها نعمٌ تأتي مرة واحدة في العمر، فمن لم يحسن استغلالها فقد ضيّع فرصة قد لا تأتي مرّة أخرى في عمره.
تفصيل الفرص الخمس
فرصة الشباب
فمن المعلوم أن الإنسان يكون في أقوى حالاته زمن الشباب، فهي المرحلة التي تكون فيها القوة والعزيمة والإرادة والنشاط في أعلى معدّلاتها، فإذا ضاعت هذه الفرصة جاء كبر السن والأمراض والعجز فلا يستطيع الإنسان فعل شيء مما يقدر على فعله في شبابه.
وها هو عبدالله بن عمرو بن العاص يضرب لنا أعظم مثلٍ في استغلال فرصة الشباب فيقرأ القرآن كله كاملًا في ليلة واحدة، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم :”إنِّي أخشى أن يطولَ عليْكَ الزَّمانُ وأن تملَّ فاقرأْهُ في شَهرٍ”، فيأتي الرد منه قائلًا: “دعني أستمتِع من قوَّتي وشبابي” أي: دعني انتهز فرصة الشباب والقوة فيما ينفع فمثل هذه الفرصة لن تأتي مرة أخرى، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم له: “فاقرأْهُ في عشرةٍ” (أي اختمه في عشرة أيام بدلًا من ليلة واحدة)، فيقول عبدالله للرسول صلى الله عليه وسلم: “دعني أستمتع من قوَّتي وشبابي”، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم للمرة الأخيرة: “فاقرأْهُ في سبعٍ” (أي في سبعِ أيامٍ بلياليهن تختم فيها القرآن)، فرد عبدالله قائلًا: “دعني أستمتع من قوَّتي وشبابي فأبى”.
ولكن قبل أن نبدأ بتفصيل الفرصة الثانية علينا التنويه لشيء.
ليس معنى الحديث الحث على ختم القرآن لمجرد القراءة فقط، فقراءة القرآن وختمه ليس بسباقٍ يلزم أن نسبق فيه غيرنا، فليس الغرض من القراءة السرعة والختم قبل الآخرين وإنّما الغرض من قراءة القرآن هو فهم آياته وتدبّرها حتى يساعدنا ذلك على العمل بها.
وإنّما ألحّ عبدالله بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من الصحابة الذين رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير والكثير من الأحاديث، فقد روى عن النبي ما يقرب من 700 حديث، فأجدر به أن يكون فاهمًا لوحي السماء منا نحن أهل هذا الزمان.
فعلينا أن نغتنم شبابنا قبل أن يأتي اليوم الذي نقول فيه كما قال الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يومًا فأخبره بما فعل المشيبُ
فرصة الصحة
فالإنسان منا إذا أصيب ببعض الحمّى قد لا يقوى على الحراك من سريره مدة أٌسبوع، فكيف لو لازمه مرض دائمٌ لا يقوى معه على الحراك أصلًا، فكلنا يعلم أنه كلما تقدّم العمر بالإنسان كلما لازمه المرض والعجز كما قال الله –تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) فالضعف الأول هو الذي يكون في فترة مرحلة الطفولة، ثم تأتي من بعد ذلك القوة وهي مرحلة الشباب، ثم يرجع الإنسان مرة أخرى إلى مرحلة الضعف الأبدية والتي يكون فيها عجوزًا هرمًا لا يقوى على فعل شيءٍ لذهاب صحته عنه، فعليه اغتنام فرصة صحته التي تكون مرتبطة بفترة شبابه غالبًا لئلا يندم بعد ذلك.
فهذا الحديث يوصينا باغتنام فترة الصحة أقصى اغتنام، فلو حصل مرض أو وهنٌ للإنسان وقلّت قدرته على العمل، كان عمله أيام الصحة جابرًا لذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عُمَر –رضي الله عنهما-: “وخُذْ مِن صحتك لِمرَضِك، ومن حياتك لِمَوتك”.
فرصة الغنى
وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم على اغتنام هذه النعمة خصوصًا وأن الكثير من الأغنياء قد يظنون أن غناهم هذا سيكون دائمًا إلى أن تقوم الساعة، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن نعمة الغنى قد تزول في أي وقت، وحثّ الأغنياء على استغلال هذه النعمة بالتصدق والإنفاق على الفقراء والمساكين والتبرع لأعمال الخير لعل ذلك يكون سببًا في دوام نعمة الغنى عليه وزيادة ماله والبركة فيه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:” “تَعَرَّفْ إِلَى الله فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ” وهو نفس المعنى الذي يهدف إليه هذا الحديث.
فرصة الفراغ
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من رواية عبدالله بن عبّاسٍ -رضي الله عنه-: “نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الْفَرَاغُ وَالصِّحَّةُ” والمغبون هو التاجر الخاسر في تجارته دائمًا وأبدًا، فهو لا يكاد يفيق من خسارة إلا لحقته التي تليها.
وهذا حال من لا يغتنم فراغه في تعلّمِ ما ينفعه، أو في عمل صالح ينال به عظيم الثواب في الآخرة، أو حتى في ترويح وتسرية عن نفسه ليقوى على استكمال حياته بلا كلل أو ملل، فهو إما أنه يقضي ساعات فراغه فيما ليس بمباحٍ في الشرع والمعلوم أن لذّة المعصية لا تدوم، وإمّا أنه لا يقضيها أصلًا فيصبح في عمل وينام في عمل ولا يستمتع بلذّة الحياة الدنيا.
ومن المعلوم أيضًا أن الإنسان يبدأ حياته متفرغًا من كل شيء، لا يعرف شيئًا عن هموم الدنيا وجحيمها، وكلّما مرّت الأيّام والسنين كلما ازاد همُّه وثَقُلَ الحمل عليه واشتدت الدنيا به، فعليه أن يغتنم الفترة التي يكون فيها بلا هموم تقريبًا لأنه بعد ذلك سيحمل همّ الزواج والأولاد والبحث عن لقمة العيش الحلال، فإن لم يكن مستعدًا لذلك فسيندم أشدّ الندم.
فرصة الحياة
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” فمن لم يغتنم فرصة حياته عمومًا بكل ما في الحياة من نعم فسيموت كما لو يأتي إلى الدنيا، وتذهب حياته هباءً منثورًا.
إلى هنا نكون قد انتهينا من شرح حيث الرسول صلى الله عليه وسلم اغتنم خمسا قبل خمس، على أمل أن نكون قد لخصنا لكم مضمون الحديث والأفكار الرئيسية به، سائلين المولى –عز وجل- أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علّمنا إنّه ولي ذلك والقادر عليه.