شعر المتنبي في العتاب يجذب القلب ويأسر الروح، ويثير الأحاسيس نحو الشعور بالندم على فقدان الحبيب وهجرانه، فقد كان المتنبي ينتقي ألفاظه بعناية، ويطلق العنان لقلبه، ليستفيض لسانه بعذب الكلام الذي يذيب الحجر.
لذلك ومن خلال موقع البلد دعونا نستمتع بأعذب الكلمات التي أطلقها شاعرنا الجليل في معاتبة محبيه وإلقاء اللوم عليهم.
شعر المتنبي في العتاب
العتاب من أهم الصفات التي يجب أن تتوافر في الحب، بهدف المحافظة عليه وعلى بقاؤه، فمن منا لا يعاتب شريكه في الحياة على الأفعال التي قد تؤثر على قوة علاقة الحب بين الطرفين، سواء كانا محبوبين أو أصدقاء أو غيرهما.
لذلك سنسرد لكم بعض الأبيات الشعرية للمتنبي في المعاتبة والتي قد ألقاها في العديد من المواقف التي أثرت في قلبه ووجدانه، وجعلت لسانه ينطق بأجمل الشطور التي سنستعرضها سويًا فيما يلي:
- قصيدة وأحر قلباه.
- قصيدة عدت يا عيد.
- قصيدة كفى بك داء.
أولًا: قصيدة وأحر قلباه للمتنبي
هي من القصائد التي كتبها المتنبي بعد أن افترق عن خليله سيف الدولة الحمداني حاكم الدولة الحمدانية، إثر استماع الحمداني للحاسدين لهما، والحاقدين عليهما وعلى قوة علاقتهما.
حيث انقسمت القصيدة إلى عدة أجزاء وهما مدح المتنبي لسيف الدولة، ثم معاتبته له على الهجر، ثم تهديده له بالرحيل، حيث سنتناولها فيما يلي من خلال السطور القادمة.
مدح المتنبي لسيف الدولة في بداية وأحر قلباه
في بداية أبيات شعر المتنبي في العتاب، لم يتعمد البدء بالمعاتبة، بل استهل القصيدة بمدح صديقه سيف الدولة الحمداني، مما يعبر عن حبه الجم له، حيث قال:
واحَرّ قَلْباه ممّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ *** وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدي *** وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ
إنْ كَانَ يَجْمَعُنَا حُبٌّ لِغُرّتِهِ *** فَلَيْتَ أنّا بِقَدْرِ الحُبّ نَقْتَسِمُ
قد زُرْتُهُ وَسُيُوفُ الهِنْدِ مُغْمَدَةٌ *** وَقد نَظَرْتُ إلَيْهِ وَالسّيُوفُ دَمُ
فكانَ أحْسَنَ خَلقِ الله كُلّهِمِ *** وَكانَ أحسنَ ما في الأحسَنِ الشّيَمُ
فَوْتُ العَدُوّ الذي يَمّمْتَهُ ظَفَرٌ *** في طَيّهِ أسَفٌ في طَيّهِ نِعَمُ
قد نابَ عنكَ شديدُ الخوْف *** وَاصْطنعتْ لَكَ المَهابَةُ ما لا تَصْنَعُ البُهَمُ
َألزَمتَ نَفسَكَ شَيئاً لَيسَ يَلزَمُها *** أَن لا يُوارِيَهُم أَرضٌ وَلا عَلَمُ
أكُلّمَا رُمْتَ جَيْشاً فانْثَنَى هَرَباً *** تَصَرّفَتْ بِكَ في آثَارِهِ الهِمَمُ
عَلَيْكَ هَزْمُهُمُ في كلّ مُعْتَرَكٍ *** وَمَا عَلَيْكَ بهِمْ عارٌ إذا انهَزَمُوا
أمَا تَرَى ظَفَراً حُلْواً سِوَى ظَفَر *** تَصافَحَتْ فيهِ بِيضُ الهِنْدِ وَاللِّمم
يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي *** فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ
عتاب المتنبي لصديقه العزيز
كما رأينا أن شاعرنا المبجل لم يهاجم صديقه أو يذكره بسوء، كونه على خلاف معه، بل ظل يمدحه في الجزء الأول من القصيدة، ثم بدء المتنبي في معاتبة سيف الدولة بقلب حاني، وألفاظ خالية من التهجم رغم غضبه الجسيم منه وذلك من سمو سمات أسلوب شعر المتنبي في العتاب، حيث قال:
عِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً *** أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ
وَمَا انْتِفَاعُ أخي الدّنْيَا بِنَاظِرِه *** إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنْوارُ وَالظُّلَمُ
سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا *** بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ
أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي *** وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا *** وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
وَجاهِلٍ مَدّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي *** حَتى أتَتْه يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ
إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً *** فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ
وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمّ صَاحِبها *** أدرَكْتُهَا بجَوَادٍ ظَهْرُه حَرَمُ
رِجلاهُ في الرّكضِ رِجلٌ وَاليدانِ يَدٌ *** وَفِعْلُهُ مَا تُريدُ الكَفُّ وَالقَدَمُ
وَمُرْهَفٍ سرْتُ بينَ الجَحْفَلَينِ بهِ *** حتى ضرَبْتُ وَمَوْجُ المَوْتِ يَلْتَطِمُ
الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني *** وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ
صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ منفَرِداً *** حتى تَعَجّبَ مني القُورُ وَالأكَمُ
يَا مَنْ يَعِزّ عَلَيْنَا أنْ نُفَارِقَهُمْ *** وِجدانُنا كُلَّ شيءٍ بَعدَكمْ عَدَمُ
تهديد المتنبي لصاحبه بالرحيل
في ختام القصيدة بدأ المتنبي في استجماع كل ما يملك من قوة، مهددًا صاحبه بالرحيل، إذا استمر في الاستماع إلى الخصوم، وذلك لأنه لا يقدر على مقاطعته، حيث أنهاها بأجمل جملة من جمل شعر المتنبي في العتاب فقال له:
ما كانَ أخلَقَنَا مِنكُمْ بتَكرِمَةٍ *** لَوْ أنّ أمْرَكُمُ مِن أمرِنَا أمَمُ
أنْ كانَ سَرّكُمُ ما قالَ حاسِدُنَا *** فَمَا لجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألَمُ
وَبَيْنَنَا لَوْ رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعرِفَةٌ *** إنّ المَعارِفَ في أهْلِ النُّهَى ذِمَمُ
كم تَطْلُبُونَ لَنَا عَيْباً فيُعجِزُكمْ *** وَيَكْرَهُ الله ما تَأتُونَ وَالكَرَمُ
ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شرَفي *** أنَا الثّرَيّا وَذانِ الشّيبُ وَالهَرَمُ
لَيْتَ الغَمَامَ الذي عندي صَواعِقُهُ *** يُزيلُهُنّ إلى مَنْ عِنْدَهُ الدِّيَمُ
أرَى النّوَى يَقتَضيني كلَّ مَرْحَلَةٍ *** لا تَسْتَقِلّ بها الوَخّادَةُ الرُّسُمُ
لَئِنْ تَرَكْنَ ضُمَيراً عَنْ مَيامِنِنا *** لَيَحْدُثَنّ لمَنْ وَدّعْتُهُمْ نَدَمُ
إذا تَرَحّلْتَ عن قَوْمٍ وَقَد قَدَرُوا *** أنْ لا تُفارِقَهُمْ فالرّاحِلونَ هُمُ
شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ *** وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ
وَشَرُّ ما قَنّصَتْهُ رَاحَتي قَنَصٌ *** شُهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيهِ والرَّخَمُ
بأيّ لَفْظٍ تَقُولُ الشّعْرَ زِعْنِفَةٌ تَجُوزُ *** عِندَكَ لا عُرْبٌ وَلا عَجَمُ
هَذا عِتابُكَ إلاّ أنّهُ مِقَةٌ *** قد ضُمّنَ الدُّرَّ إلاّ أنّهُ كَلِمُ
قصيدة عدت يا عيد للمتنبي
في هذه القصيدة كان المتنبي يشعر بالألم الشديد جراء تركه للبلد بعد عدم تصالحه مع سيف الدولة الحمداني الذي عاتبه في القصيدة الماضية، مما جعله يكتب قصيدة أخرى من أجمل قصائد شعر المتنبي في العتاب.
حيث أعربت عن حزنه الجم لتركه البلاد ليلة عيد الأضحى، بعد عدم استجابة صاحبه لنداء قلبه فقال:
عِــيــدٌ بِــأَيَّــةِ حَــالٍ عُــدْتَ يَـا عِـيـدُ *** بِـمَـا مَـضَـى أَمْ بِـأَمْـرٍ فِـيـكَ تَـجْـدِيـدُ
أَمَّــا الْأَحِــبَّــةُ فَــالْــبَــيْــدَاءُ دُونَــهُـمُ *** فَــلَــيْــتَ دُونَــكَ بِــيـدًا دُونَـهَـا بِـيـدُ
لَـوْلَا الْـعُـلَا لَمْ تَجُبْ بِي مَا أَجُوبُ بِهَا *** وَجْــنَــاءُ حَــرْفٌ وَلَا جَـرْدَاءُ قَـيْـدُودُ
وَكَـانَ أَطْـيَـبَ مِـنْ سَـيْـفِي مُضَاجَعَةً *** أَشْــبَــاهُ رَوْنَــقِــهِ الْــغِــيـدُ الْأَمَـالِـيـدُ
لَـمْ يَـتْـرُكِ الـدَّهْـرُ مِنْ قَلْبِي وَلَا كَبِدِي شَــيْــئًــا *** تُــتَــيِّــمُــهُ عَـيْـنٌ وَلَا جِـيـدُ
يَـا سَـاقِـيَـيَّ أَخَـمْـرٌ فِـي كُـئُـوسِـكُـمَـا *** أَمْ فِــي كُــئُـوسِـكُـمَـا هَـمٌّ وَتَـسْـهِـيـدُ
أَصَــخْــرَةٌ أَنَــا مَــالِــي *** لَا تُـحَـرِّكُـنِـي هَــذِي الْــمُــدَامُ وَلَا هَــذِي الْأَغَـارِيـدُ
إِذَا أَرَدْتُ كُــمَــيْــتَ اللَّــوْنِ صَـافِـيَـةً *** وَجَـدْتُـهَـا وَحَـبِـيـبُ الـنَّـفْـسِ مَـفْقُودُ
مَــاذَا لَـقِـيـتُ مِـنَ الـدُّنْـيَـا وَأَعْـجَـبُـهُ *** أَنِّــي بِــمَــا أَنَــا بَــاكٍ مِـنْـهُ مَـحْـسُـودُ
أَمْــسَــيْــتُ أَرْوَحَ مُـثْـرٍ خَـازِنًـا وَيَـدًا *** أَنَــا الْــغَــنِــيُّ وَأَمْــوَالِـي الْـمَـوَاعِـيـدُ
إِنِّــي نَــزَلْــتُ بِــكَــذَّابِـيـنَ ضَـيْـفُـهُـمُ *** عَـنِ الْـقِـرَى وَعَـنِ الـتَّـرْحَـالِ مَحْدُودُ
جُـودُ الـرِّجَـالِ مِـنَ الْأَيْـدِي وَجُودُهُمُ *** مِــنَ اللِّـسَـانِ فَـلَا كَـانُـوا وَلَا الْـجُـودُ
مَـا يَـقْـبِضُ الْمَوْتُ نَفْسًا مِنْ نُفُوسِهِمُ *** إِلَّا وَفِــي يَــدِهِ مِــنْ نَــتْــنِــهَــا عُــودُ
مِـنْ كُـلِّ رِخْـوِ وِكَـاءِ الْـبَـطْـنِ مُـنْفَتِقٍ *** لَا فِـي الـرِّجَـالِ وَلَا الـنِّـسْوَانِ مَعْدُودُ
أَكُــلَّـمَـا اغْـتَـالَ عَـبْـدُ الـسَّـوْءِ سَـيِّـدَهُ *** أَوْ خَــانَــهُ فَــلَـهُ فِـي مِـصْـرَ تَـمْـهِـيـدُ
صَــارَ الْــخَـصِـيُّ إِمَـامَ الْآبِـقِـيـنَ بِـهَـا *** فَـالْـحُـرُّ مُـسْـتَـعْـبَـدٌ وَالْـعَـبْـدُ مَـعْـبُودُ
نَـامَـتْ نَـوَاطِـيـرُ مِـصْـرٍ عَـنْ ثَـعَـالِبِهَا *** فَـقَـدْ بَـشِـمْـنَ وَمَـا تَـفْـنَـى الْـعَـنَـاقِيدُ
بقية قصيدة عدت يا عيد
لم تنته أجمل قصائد المتنبي العاتبة بعد، حيث أنه أفرغ فيها كافة مشاعره النبيلة، فقد أستكمل عتابه بكل ما امتلك من جوارح متأثرة بما حدث حيث قال:
الْــعَــبْــدُ لَــيْــسَ لِــحُــرٍّ صَـالِـحٍ بِـأَخٍ *** لَــوْ أَنَّــهُ فِــي ثِــيَــابِ الْـحُـرِّ مَـوْلُـودُ
لَا تَــشْــتَـرِ الْـعَـبْـدَ إِلَّا وَالْـعَـصَـا مَـعَـهُ *** إِنَّ الْــعَــبِــيــدَ لَأَنْــجَــاسٌ مَــنَـاكِـيـدُ
مَـا كُـنْـتُ أَحْـسَـبُـنِـي أَحْـيَـا إِلَى زَمَنٍ *** يُـسِـيءُ بِـي فِـيـهِ كَـلْبٌ وَهْوَ مَحْمُودُ
وَلَا تَـوَهَّـمْـتُ أَنَّ الـنَّـاسَ قَـدْ فُـقِـدُوا *** وَأَنَّ مِــثْــلَ أَبِـي الْـبَـيْـضَـاءِ مَـوْجُـودُ
وَأَنَّ ذَا الْأَسْـوَدَ الْـمَـثْـقُـوبَ مِـشْـفَـرُهُ *** تُـطِـيـعُـهُ ذِي الْـعَـضَـارِيـطُ الـرَّعَادِيدُ
جَـوْعَـانُ يَـأْكُـلُ مِـنْ زَادِي وَيُمْسِكُنِي *** لِـكَـيْ يُـقَـالَ عَـظِـيـمُ الْـقَـدْرِ مَـقْصُودُ
إِنَّ امْـــرَأً أَمَـــةٌ حُـــبْـــلَـــى تُـــدَبِّــرُهُ *** لَـمُـسْـتَـضَـامٌ سَـخِـيـنُ الْـعَـيْنِ مَفْئُودُ
وَيْــلُــمِّــهَــا خُــطَّــةً وَيْــلُــمِّ قَـابِـلِـهَـا *** لِــمِــثْــلِــهَــا خُـلِـقَ الْـمَـهْـرِيَّـةُ الْـقُـودُ
وَعِــنْـدَهَـا لَـذَّ طَـعْـمَ الْـمَـوْتِ شَـارِبُـهُ *** إِنَّ الْــمَــنِــيَّــةَ عِــنْــدَ الــذُّلِّ قِـنْـدِيـدُ
مَـنْ عَـلَّـمَ الْأَسْـوَدَ الْـمَـخْصِيَّ مَكْرُمَةً *** أَقَــوْمُــهُ الْــبِـيـضُ أَمْ آبَـاؤُهُ الـصِّـيـدُ
أَمْ أُذْنُــهُ فِــي يَــدِ الـنَّـخَّـاسِ دَامِـيَـةً *** أَمْ قَــدْرُهُ وَهْـوَ بِـالْـفَـلْـسَـيْـنِ مَـرْدُودُ
أَوْلَــى اللِّــئَــامِ كُــوَيْــفِــيـرٌ بِـمَـعْـذِرَةٍ *** فِـي كُـلِّ لُـؤْمٍ وَبَـعْـضُ الْـعُـذْرِ تَـفْـنِيدُ
وَذَاكَ أَنَّ الْـفُـحُـولَ الْـبِـيـضَ عَـاجِـزَةٌ *** عَـنِ الْـجَـمِـيلِ فَكَيْفَ الْخِصْيَةُ السُّودُ
الشاعر المتنبي يعاتب نفسه
في أسمى المعاني الراقية لشعر المتنبي في العتاب، قام أعظم الشعراء وأسماهم خلقًا بمعاتبة نفسه التي أرهقتها المشاعر الفياضة والأحاسيس الجياشة، من خلال قصيدة كفى بك داء حيث قال في أول أجزائها:
كفى بكَ داءً أنْ ترَى الموْتَ شافِيَا *** وَحَسْبُ المَنَايَا أنْ يكُنّ أمانِيَا
تَمَنّيْتَهَا لمّا تَمَنّيْتَ أنْ تَرَى *** صَديقاً فأعْيَا أوْ عَدُواً مُداجِيَا
إذا كنتَ تَرْضَى أنْ تَعيشَ بذِلّةٍ *** فَلا تَسْتَعِدّنّ الحُسامَ اليَمَانِيَا
وَلا تَستَطيلَنّ الرّماحَ لِغَارَةٍ *** وَلا تَستَجيدَنّ العِتاقَ المَذاكِيَا
فما يَنفَعُ الأُسْدَ الحَياءُ من الطَّوَى *** وَلا تُتّقَى حتى تكونَ ضَوَارِيَا
حَبَبْتُكَ قَلْبي قَبلَ حُبّكَ من نأى *** وَقد كانَ غَدّاراً فكُنْ أنتَ وَافِيَا
وَأعْلَمُ أنّ البَينَ يُشكيكَ بَعْدَهُ *** فَلَسْتَ فُؤادي إنْ رَأيْتُكَ شَاكِيَا
فإنّ دُمُوعَ العَينِ غُدْرٌ بِرَبّهَا *** إذا كُنّ إثْرَ الغَادِرِين جَوَارِيَا إذا الجُودُ لم يُرْزَقْ خَلاصاً من الأذَى *** فَلا الحَمدُ مكسوباً وَلا المالُ باقِيَ
وَللنّفْسِ أخْلاقٌ تَدُلّ على الفَتى *** أكانَ سَخاءً ما أتَى أمْ تَسَاخِيَا
أقِلَّ اشتِياقاً أيّهَا القَلْبُ رُبّمَا *** رَأيْتُكَ تُصْفي الوُدّ من ليسَ صافيَا
خُلِقْتُ ألُوفاً لَوْ رَجعتُ إلى الصّبَى *** لَفارَقتُ شَيبي مُوجَعَ القلبِ باكِيَا
وَلَكِنّ بالفُسْطاطِ بَحْراً أزَرْتُهُ *** حَيَاتي وَنُصْحي وَالهَوَى وَالقَوَافِيَا
وَجُرْداً مَدَدْنَا بَينَ آذانِهَا القَنَا *** فَبِتْنَ خِفَافاً يَتّبِعْنَ العَوَالِيَ
تَمَاشَى بأيْدٍ كُلّمَا وَافَتِ الصَّفَا *** نَقَشْنَ بهِ صَدرَ البُزَاةِ حَوَافِيَا وَتَنظُرُ من سُودٍ صَوَادِقَ في الدجى *** يَرَينَ بَعيداتِ الشّخُوصِ كما هِيَا
وَتَنْصِبُ للجَرْسِ الخَفِيِّ سَوَامِعاً *** يَخَلْنَ مُنَاجَاةَ الضّمِير تَنَادِيَا
تُجاذِبُ فُرْسانَ الصّباحِ أعِنّةً *** كأنّ على الأعناقِ منْهَا أفَاعِيَا
الجزء الثاني من قصيدة كفى بك داء
في هذا الجزء حاول الشاعر المغوار الوقوف مجددًا على قدميه بعزة وفخر، مستندًا إلى كسوره، ومحولها إلى عكاز يتكئ عليه، وبدا ذلك من خلال قوله:
بعَزْمٍ يَسيرُ الجِسْمُ في السرْجِ راكباً *** بهِ وَيَسيرُ القَلبُ في الجسْمِ ماشِيَا
قَوَاصِدَ كَافُورٍ تَوَارِكَ غَيرِهِ *** وَمَنْ قَصَدَ البَحرَ استَقَلّ السّوَاقِيا
فَجاءَتْ بِنَا إنْسانَ عَينِ زَمانِهِ *** وَخَلّتْ بَيَاضاً خَلْفَهَا وَمَآقِيَا تجُوزُ عَلَيهَا المُحْسِنِينَ إلى الّذي *** نَرَى عِندَهُمْ إحسانَهُ وَالأيادِيَا
فَتىً ما سَرَيْنَا في ظُهُورِ جُدودِنَا *** إلى عَصْرِهِ إلاّ نُرَجّي التّلاقِيَا
تَرَفّعَ عَنْ عُونِ المَكَارِمِ قَدْرُهُ *** فَمَا يَفعَلُ الفَعْلاتِ إلاّ عَذارِيَا
يُبِيدُ عَدَاوَاتِ البُغَاةِ بلُطْفِهِ *** فإنْ لم تَبِدْ منهُمْ أبَادَ الأعَادِيَا
الجزء الأخير من قصيدة كفى بك داء
في هذا الجزء وهو من أجمل أبيات شعر المتنبي في العتاب، يذكر الشاعر نفسه بالذي مضى مستنكرًا ما وصل إليه، وبعد ذلك أشرقت الشمس في شعره، فأصبح أكثر قوة وبسالة، وعاد المتنبي إلى قمة مجده وعزته في ختام تلك القصيدة، والتي جاءت نهايتها على النحو التالي:
أبا المِسكِ ذا الوَجْهُ الذي كنتُ تائِقاً *** إلَيْهِ وَذا اليَوْمُ الذي كنتُ رَاجِيَا
لَقِيتُ المَرَوْرَى وَالشّنَاخيبَ دُونَهُ *** وَجُبْتُ هَجيراً يَترُكُ المَاءَ صَادِيَا
أبَا كُلّ طِيبٍ لا أبَا المِسْكِ وَحدَه *** وَكلَّ سَحابٍ لا أخُصّ الغَوَادِيَا
يُدِلّ بمَعنىً وَاحِدٍ كُلُّ فَاخِرٍ *** وَقد جَمَعَ الرّحْمنُ فيكَ المَعَانِيَا
إذا كَسَبَ النّاسُ المَعَاليَ بالنّدَى *** فإنّكَ تُعطي في نَداكَ المَعَالِيَا
وَغَيرُ كَثِيرٍ أنْ يَزُورَكَ رَاجِلٌ *** فَيَرْجعَ مَلْكاً للعِرَاقَينِ وَالِيَا
فَقَدْ تَهَبُ الجَيشَ الذي جاءَ غازِياً *** لِسائِلِكَ الفَرْدِ الذي جاءَ عَافِيَا
وَتَحْتَقِرُ الدّنْيَا احْتِقارَ مُجَرِّبٍ *** يَرَى كلّ ما فيهَا وَحاشاكَ فَانِيَا
وَمَا كُنتَ ممّن أدرَكَ المُلْكَ بالمُنى *** وَلَكِنْ بأيّامٍ أشَبْنَ النّوَاصِيَا
عِداكَ تَرَاهَا في البِلادِ مَساعِياً *** وَأنْتَ تَرَاهَا في السّمَاءِ مَرَاقِيَا
لَبِسْتَ لهَا كُدْرَ العَجاجِ كأنّمَا *** تَرَى غيرَ صافٍ أن ترَى الجوّ صَافِيَا
وَقُدتَ إلَيْها كلّ أجرَدَ سَابِحٍ *** يؤدّيكَ غَضْبَاناً وَيَثْنِيكَ رَاضِيَا
وَمُخْتَرَطٍ مَاضٍ يُطيعُكَ آمِراً *** وَيَعصِي إذا استثنَيتَ أوْ صرْتَ ناهِيَا
وَأسْمَرَ ذي عِشرِينَ تَرْضَاه وَارِداً *** وَيَرْضَاكَ في إيرادِهِ الخيلَ ساقِيَا
كَتائِبَ ما انفَكّتْ تجُوسُ عَمائِراً *** من الأرْضِ قد جاسَتْ إلَيها فيافِيَا
غَزَوْتَ بها دُورَ المُلُوكِ فَباشَرَتْ *** سَنَابِكُها هَامَاتِهِمْ وَالمَغانِيَا
وَأنْتَ الذي تَغْشَى الأسِنّةَ أوّلاً *** وَتَأنَفُ أنْ تَغْشَى الأسِنّةَ ثَانِيَا
إذا الهِنْدُ سَوّتْ بَينَ سَيفيْ كَرِيهَةٍ *** فسَيفُكَ في كَفٍّ تُزيلُ التّساوِيَا
وَمِنْ قَوْلِ سَامٍ لَوْ رَآكَ لِنَسْلِهِ *** فِدَى ابنِ أخي نَسلي وَنَفسي وَمالِيَا
مَدًى بَلّغَ الأستاذَ أقصَاهُ رَبُّهُ *** وَنَفْسٌ لَهُ لم تَرْضَ إلاّ التّنَاهِيَا
دَعَتْهُ فَلَبّاهَا إلى المَجْدِ وَالعُلَى *** وَقد خالَفَ النّاسُ النّفوسَ الدّوَاعيَا
فأصْبَحَ فَوْقَ العالَمِينَ يَرَوْنَهُ *** وَإنْ كانَ يُدْنِيهِ التّكَرُّمُ نَائِيَا
أبيات شعر المتنبي في المعاتبة الحانية
عقب قراءتك لأبيات شعر المتنبي في العتاب، تشعر بفخره وعزته واعتزازه، فهو يعاتب دون أن يقلل من شأن نفسه، دون أن يهين كرامته، دون أن ينسى رفعته، وشموخه، وهو من أجل ما ميز أسلوب أبيات المتنبي في عتاب المحبين.
من خلال الأبيات القادمة، سنرى الجانب العاطفي من المتنبي حين يطل على قلب محبيه بالعتاب الراقي، الذي لا يخلو من عبارات الحب القوية، حيث يتجلى ذلك في قول أجمل شطور شعر المتنبي في العتاب من خلال ما يلي:
ملُومُكُمَا يَجِلُّ عن المَلامِ *** وَوَقْعُ فَعَالِهِ فَوْقَ الكَلامِ
ذَرَاني والفَلاةَ بلا دَلِيلٍ *** وَوَجْهِي والهَجِيرَ بلا لِثَامِ
فإِنِّي أَسْتَرِيحُ بِذِي وهَذَا *** وَأَتْعَبُ بَالإِنَاخَةِ والمُقَامِ عُيُونُ
رَوَاحِلِي إِن حِرْتُ عَيْني *** وَكُلُّ بُغَامِ رَازِحَةٍ بُغَامِي
فَقَدْ أَرِدُ المِيَاهَ بِغَيْرِ هَادٍ *** سِوَى عَدِّي لَهَا بَرْقَ الغَمَامِ
يُذِمُّ لِمُهْجَتي رَبِّي وَسَيْفِي *** إِذَا احْتَاجَ الوَحِيدُ إِلَى الذِّمَامِ
ولا أُمْسِي لأَهْلِ البُخْلِ ضَيْفًا *** وَلَيْسَ قِرًى سِوَى مُخِّ النَّعَامِ
وَلَمَّا صَارَ وُدُّ النَّاسِ خِبًّا *** جَزَيْتُ عَلَى ابْتِسَامٍ بِابْتِسَام
وَصِرْتُ أَشُكُّ فِيمَنْ أَصْطَفِيهِ *** لِعِلْمِي أَنَّهُ بَعْضُ الأَنَامِ
ما أجمل شطور شعر المتنبي في العتاب، وما أحوجنا إلى هذه الكلمات الأصيلة، التي تغذي الروح وتشفي القلب من كل العلل.