اسلاميات

اينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة.. تفسير الأئمة

اينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة القرآن الكريم هو كتاب سماوي من لدن الله تعالى، وهو كلام الله عز وجل الذي تكلم به على الحقيقة سواء أكان من حيث حروفه أو معانيه، وفي هذه المقالة نتطرق إلى إحدى آيات القرآن ونوضح عبر موقع البلد تفسير بعض العلماء لها.

أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة

  • قال ابن عباس في رواية أبي صالح لما اُستشهِد بعض المسلمين في أُحُد، قال المنافقون الذين لم يذهبوا للجهاد “لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا” فرد الله عليهم ” أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ “.
  • والبرج هو البناء المرتفع والقصر العظيم، واختلف أهل التأويل في المراد بهذه البروج، فقال أكثرهم وهو الأدق “إنه يقصد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية، لأنها ما يلجأ إليها الناس من أجل التحصن”.

تفسير القرطبي

  • قوله تعالى “أينما تكونوا يدرككم الموت” شرط ومجازاة، و”ما” إضافية وهذا الكلام موجه بشكل عام وإن كان المقصود ضِعاف الإيمان ممن قالوا “لولا أخرتنا إلى أجل قريب” أي إلى أن نموت بآجالنا.
  • وهو يقصد المنافقين كما وضحنا، لقولهم لما استشهد أهل أحد، لو كانوا معنا ما ماتوا وما قتلوا، فرد الله عليهم أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة كما قيل عن ابن عباس في رواية أبي صالح عنه.
  • هذه الآية تؤكد على القدرية في الآجال، لقوله تعالى “أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة”، فبيّن لهم بذلك أن الأعمار عندما تنقضي فلا بد من مفارقة الروح للجسد، سواء بقتل أو موت أو غيرهما.
  • اتخاذ البلاد وتشييدها للجوء إليها في حفظ المال والنفس هي سنة الله في عباده، وفي ذلك أقوى رد على من يردد أن “التوكل ترك الأسباب”، فإن اتخاذ البلاد من أكبر الأسباب وأعظمها وقد أمرنا بها.
  • وشيد الأنبياء البلاد وأقاموا الخنادق من حولها لمزيد من التحصّن، وقد سئل الأحنف “ما الغرض من السور؟” فرد “ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم فيحميه”.
  • وإذا نظرنا إلى قول مالك والسدي في أنها بروج السماء، فبروج السماء اثنا عشر برجًا مشيدة من الرفع، وهي الكواكب العظام، وسميت لكواكب بالبروج لظهورها، فبروج الشيء معناه ظهوره.
  • وخلقها الله تعالى منازل للشمس والقمر، ورتب الأزمنة عليها، وجعلها جنوبية وشمالية دليلًا على المصالح وعلمًا على القبلة، وطريقًا إلى تحصيل آناء الليل وآناء النهار لمعرفة أوقات التهجد وغير ذلك من أحوال المعاش.

تفسير ابن كثير

  • قوله “أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة” أي “أنتم مقابلون للموت ولا مفر منه، ولن تستطيعوا النجاة منه، فكما قال تعالى “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”.
  • وقال تعالى “كل نفس ذائقة الموت” [آل عمران:185] وقال تعالى “وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد” [الأنبياء:34] والمراد أن كل الناس مقابلون للموت لا مفر من ذلك، سواء جاهد أو لم يجاهد.
  • كما قال خالد بن الوليد عندما كان على فراش الموت “لقد شهدت كذا وكذا موقفًا، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء”.
  • وقوله “ولو كنتم في بروج مشيدة” أي حصينة مرتفعة قوية، وهناك قول إنها بروج في السماء -قالها السدي- لكنه ضعيف، والأصح أنها الحصينة، أي لا ينفع الاحتياط والتحصن من الموت.
  • ثم قيل “المشيدة” هي المشيدة كما قال “وقصر مشيد” [الحج:45]، وهناك قول آخر بأن هناك فرق، وهو أن المشيدة بالتشديد، هي “الطويلة”، وبدون تشديد هي “المزينة بالشيد” أي الجص.

تفسير الطبري

  • يقول أبو جعفر “لا تجزعوا من الموت ولا تهربوا من القتال، وتضعفوا عن لقاء عدوكم حذرًا على أنفسكم من الموت، فإن الموت بإزائكم أين كنتم، وواصل إلى أنفسكم حيث كنتم، ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة”.
  • واختلف العماء في تفسير معنى قوله “ولو كنتم في بروج مشيدة”، ففسرها بعضهم أنه يقصد به “قصور محصنة”.
  • حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة “ولو كنتم في بروج مشيدة” يقول “في قصور محصنة”.
  • حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج، عن ابن جريج “ولو كنتم في بروج مشيدة” قال “قصور مشيدة”.
  • وقال البعض الآخر أن المقصود بها “قصور بأعيانها في السماء”.
  • حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن مفضل قال حدثنا أسباط، عن السدي “أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة” وهي “قصور بيض في سماء الدنيا مبنية”.
  • حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله “أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة” يقول “ولو كنتم في قصور في السماء”.
  • واختلف علماء اللغة في المراد بالمشيدة؛ ففسر بعض أهل البصرة إن “المشيدة” هي الطويلة، والمشيد بدون تشديد فهو “المزين”، وقال البعض الآخر أن المشيد بدون تشديد هو “المعمول بالشيد” أي الجص.
  • ووضح بعض أهل الكوفة بأن “المشيّد والمشيد من نفس الأصل فالمشدد منه يشدد لنفسه، والفعل فيه في جمع” ومثال على ذلك قولهم “هذه ثياب مصبغة وغنم مذبحة”.
  • فالتشديد هنا؛ لأنها جمع لذلك يفرق فيها الفعل، وبنفس الطريقة فبروج مشيّدة؛ لكثرة البروج حيث كثر فيها التشييد، ولذلك قال “بروج مشيدة”.

تفسير البغوي

  • قوله عز وجل “أينما تكونوا يدرككم الموت” نزل ردًا على المنافقين الذين رددوا بعد شهداء أحد “لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا”، فأنزل الله قوله “أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة”.
  • والبروج هي الحصون والقلاع، أما المشيدة فالمراد بها المرتفعة الطويلة، وقال قتادة أن المراد بالجملة “في قصور محصنة”، بينما قال عكرمة أن مشيدة تعني “مجصصة”، حيث إن الشيد هو الجص.

التحرير والتنوير

  • جملة “أينما تكونوا يدرككم الموت” يمكن أن تكون من تمام القول “قل متاع الدنيا قليل”، ولكنها لم تعطف على “متاع الدنيا قليل”؛ لأنها وما عطف عليها توضيح لخطأهم في طلب التأخير إلى أجل قريب.
  • وجملة “أينما تكونوا يدرككم الموت” المراد بها التوضيح بأن الخوف هو الذي جعلهم يطلبون التأخير إلى أجل قريب، لأنهم ظنوا أن أماكن المعركة تقرب الموت من الناس.
  • ومن الممكن أن يكون القول قد تم، وأن جملة “أينما تكونوا” موجهة إليهم بالخطاب من الله، أو موجهة للأمة كلها بالخطاب، فتكون في كلا الحالتين جملة اعتراضية بين الكلام.
  • و”أينما” شرطية تقصد الأماكن و”لو” في جملة “ولو كنتم في بروج” وصلية وقد جاء في سورة آل عمران توضيح لمعناها واستعمالها عند قوله “فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به”.
  • والبروج جمع برج، وهو “البناء القوي والحصن”، والمشيدة أي “المبنية بالشيد”، وهو الجص، وتطلق على المرتفعة الطويلة، لأنهم إذا أطالوا البناء استخدموا الجص، فالقصد هو المعنى المجازي.
  • تسمى منازل كواكب السماء بالبروج كقوله تعالى “تبارك الذي جعل في السماء بروجا” وقوله “والسماء ذات البروج”.
  • وعن مالك أنه قال “البروج هنا بروج الكواكب، أي ولو بلغتم السماء”، وبذلك فإن استخدام “مشيدة” هو كناية عن الارتفاع، وهو ضعيف.

التفسير الكبير

  • المقصود من هذا الكلام توبيخ لمن قال عنهم أنهم عند فرض القتال يخشون البشر كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال، فقال تعالى “أينما تكونوا يدرككم الموت”.
  • فبيّن الله تعالى أنه لا مفر لهم من الموت، والجهاد موت تعقبه جنة الآخرة، فطالما أن الموت لا مفر منه، فمن الأفضل أن يتم بطريقة تعقبها سعادة أبدية في الآخرة.
  • ومقابل هذه الآية قوله “قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا” [الأحزاب:16] والبروج في اللغة العربية هي القصور والحصون.
  • لكن معناها في الأصل هو الظهور، فيقال للمرأة أنها تبرجت، إذا أظهرت محاسنها، أما المشيدة فمعناها المرتفعة، ولكن قال الزمخشري “من شاد إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجص”.
  • وقرأ نعيم بن ميسرة “مشيدة” بكسر الياء واصفًا لها بفعل فاعلها مجازًا، مثلما يقال “قصيدة شاعرة”، بينما الشاعر هو قائلها.

تفسير من خواطر الشعراوي

  • الحق هنا يكشف الربط بين الموت والمكان فيقول “أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ” فالعقل البشري الذي يظن أنه يستطيع اتخاذ مكان للنجاة من الموت عليه أن يفهم جيداً أنه لا يمكنه ذلك.
  • فوجود الشخص عند أي ظرف كان لا يُبعِد ولا يحجب عنه الموت، فالعندية سواء في اتجاه الكفر أو في اتجاه الإيمان لن توقف الموت.
  • والعندية كما نعرف تعطي ظرف المكان، فلطافة تسلل الموت تجتاز أي مكان وزمان ما دام الله قد أمر به، وأعداء الإنسان في عافيته وفي حياته عديدون، لكن إن نظرنا إليها في العنف نجدها تتناسب مع اللطف.
  • فكلما كان العدو ضخمًا كان أقل عنفًا، فالشيء الضخم قد يُخيف الإنسان ويفزعه، ولكن يمكن للإنسان أن يردعه، لكن يكون العدو أصعب كلما صغر ولطف ولا يدخل تحت الإدراك، فيتغلغل إلى الإنسان.
  • وكلمة (يدرككم) تدل على أن الإنسان عندما تدب فيه الروح ينطلق الموت خلف الروح، إلى أن يدركها في الوقت الذي كتبه الله. فكلمة (يدرك) تبين لنا أن الموت يلاحق الروح حتى إذا أدركها سلبها.
  • كما قال الأثر الصالح عن ملاحقة الموت للحياة “حتى إذا أدركها جرت، فلا أحد منكم إلا هو مُدْرَك”، ولذلك يقول علماء الدين “الموت سهم أرسل إليك وإنما عمرك هو بقدر سفره إليك”.
  • وعندما نبحث في مادة كلمة (البروج) يمكننا أن نتعرف على المعنى العام لها، فالحروف الأصلية في هذه الكلمة هي (الباء) و(الراء) و(الجيم) وجميعها لها دلالة على الارتفاع والظهور.
  • والأبراج غالبًا كان تشييدها مرتفعاً كحصون وقلاع مثل التي نشيدها في الوقت الحالي من الأسمنت والحديد، والقصد من (مشيدة) أي أنها بروج تم بناؤها بإحكام.
  • فالمبنى قد يكون مرتفعًا ولكنه قد يكون هشًا، أما المبنى المشيد فهو من (الشِّيد) وهو (الجص)، ومن (الشَّيْد) وهو (الارتفاع)، والمقصود أن لبنات البرج تتصل أجزاؤها بالجص فهي عالية ومتماسكة.
  • والجمع مقصود أيضا أي لو كنتم جميعًا معتصمين ببرج محاط بمجموعة أبراج أخرى، فالحصون في بعض الأوقات تُبنَى وكأنها نقطة محاطة بدائرة صغيرة، وحول الدائرة دائرة أخرى أوسع.
  • وبذلك يبدو الحصن كنقطة محاطة بعدة حصون، ورغم ذلك فالموت يلحق بالناس ولو كانوا في حصن محاط بحصون، وأيٌ من المعنيين يوضح قدرة الله في قضاء أمره بالموت.

وبذلك نكون قد أوضحنا في هذه المقالة أسباب نزول قوله تعالى “أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة” ولخّصنا بعض التفسيرات لأهم علماء الدين وأهل التأويل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى