السلام الداخلي والتصالح مع الذات
السلام الداخلي والتصالح مع الذات مصطلحان مقترنان ببعضهما بعض، كلاهما سبب يؤدي للآخر، إذ يعيش الكثير أملًا في الوصول إليهما، ويمضي غيرهم العمر بحثًا عنهما ولا يصلون إليهما، ويجهل الأشقياء في هذه الحياة وجودهما، وفي مقالنا اليوم على موقع البلد نأخذك معنا في هذه الرحلة في أغوار النفس علها تطمئن.
السلام الداخلي والتصالح مع الذات
يقصد بالتصالح مع الذات تقبلها وتفهمها، وتقدير النعمة التي وهبها الله لنا، أرواحنا التي هي نفخة من روحه، فنقدر ذاتنا ونعرف مميزاتها وما تمتلك من قدرات فضلنا بها – عز وجل- عن غيرنا من خلقه، ولا يعني أبدًا جهلنا بعيوبنا أو نكرانها، بل أن نكون محيطين بها ونعمل على تحسينها.
بالإضافة لذلك، التصالح مع الذات هو ذلك القوة الداخلية التي تجعلنا نقف على أرض صلبة في تعاملاتنا اليومية، وفي حياتنا عمومًا، وغيابه يجعلنا كأوراق الشجر ترفعنا الرياح لأعلى وتحط منا في أي مكان شاءت، فعلم المرء بعيوبه الحقيقية أول طريق لعلاجها، عوضًا عن النقد الهدام الذي لا يفيد.
أما السلام الداخلي، فهو شعور المرء بالرضا تجاه كل شيء حوله، عن نفسه وعمن حوله، وعن القدر ما يسر منه وما لا يسر، وينبغي ألا نخلط بين السلام الداخلي والسلبية، فلا يعني الأول عدم محاولة تغيير ما يشوب الواقع من عيوب، بل التسليم بأن لكل مشكلة حل ما دمنا نحاول.
وأكثر من ذلك أن ابن آدم يمضي كل سنواته على الأرض، في محاولات مضنية للبحث عن السلام الداخلي، وعن المهرب من التيه والشقاء الذي يملأه، ويسلك طرقًا عديدة في سبيل الوصول ولكن كم من طرق خاطئة يمشيها عن غير وعي، فالطريق الصحيح لا يعرف له دلالات واضحة.
العلاقة بين تصالح النفس والسلام النفسي
ولكن.. هل هناك علاقة بين المفهومين؟ بالطبع نعم، بل إنها أكثر العلاقات وثاقًا على الأرض، فتصالح الذات هو الخطوة الأولى في طريق الوصول للسلام النفسي، فكيف للمرء أن يرضى عن العالم والأقدار وتقلبات الدهر وهو لا يرضى عن نفسه ولا يفهمها؟
لقد خلق الإنسان جزوعًا، يشكو ويسخط على كل ما يصيبه، فكيف للإنسان أن يستشعر الراحة في جسد وروح لا يألفها؟
محاولات الإنسان نحو السلام الداخلي والتصالح مع الذات لا بد أن تكون جادة، فيبدأ بحديث النفس والتعرف إليها، فالذي لا يعيش في غمرة التصالح مع نفسه يجهلها كجهله لهذه الدنيا.
ولذلك نقول إن الإنسان يتعرف على نفسه بالتدريج فيدرس أفعاله وأفكاره ويحللها، لا يتخذ من حوله مقياسًا ولكن لا بأس بأخذ التغذية الراجعة منهم فبالأخير هم طرف وجزء مؤثر في تكوينه.
كنتيجة لما سبق يبدأ الإنسان في النظر للأمور بشكل مختلف، ويزنها بميزان العقل والروح، فيقدر نواقصه وبالتبعية نواقص من حوله، فلا ينتظر منهم ما كان ينتظره من قبل، بل يتفهم أننا بشر نخطأ ونصيب ولنا مميزات وعيوب.
يتبع ذلك إيمانًا من الإنسان بأن هذا العالم ليس بالمثالية التي كان يظنها، وأن عالم الأحلام الوردي الذي ينشده لم يؤدي به إلا لمزيد من المعاناة لأنه غير حقيقي، ولا وجود له على أرض الواقع، فتبدأ رحلته نحو السلام الداخلي فهم يعلم أن لكل الأشياء نواقص تكتمل فقط برضاه.
التصالح مع النفس بين الثقة والغرور
حين نتحدث عن السلام الداخلي والتصالح مع الذات، فبعض الناس قد يخطأ الفهم لهما، وتحديدًا لمفهوم التصالح مع النفس، فيظن أنه معناه الثقة الزائدة في النفس، والتي لا بد لها من أن تنقلب لغرور.
لذا، علينا أن نفرق بين المعنيين، ونبدأ بالثقة في النفس، والتي تأتي من التصالح مع الذات وفهم لمبدأ إنا لله، بمعنى أن كل ميسر لما خلق له، فإن استطاع الإنسان اكتساب صفة حميدة فذلك لأن الله يسر له هذا الأمر نتيجة لسعيه، فلا يذكر السعي وينكر على الله التيسير.
ذلك أن الإنسان يبرأ من حوله وقوته لحول الله وقوته فنقول إنه يثق في ذاته لثقته في خالقه، لا لشيء من عنده، فكل من عند الله.
أما مفهوم الغرور، فهو يعني أن ينسب الإنسان لنفسه كل ما فيه من جميل، ويرى نفسه المستحق للثناء، وهنا نقول إنه اعتراه الكبر والغرور لذلك ذكر الحبيب المصطفى في حديثه:
عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق غمص الناس. (رواه مسلم).
تبعًا لذلك نقول إنه لا علاقة أبدًا بين كونك متصالح مع ذاتك راضيًا عنها بالغرور والكبر، بل إن ذلك ينم عن ضعف النفس وهوائها، فالغرور يتبعه تقليل من شأن الآخرين وهو ما ينم عن شخصية مهترئة تظن أنها تسمو بأن تحط من قدر الآخرين وهو مؤشر لوجود صراعات نفسية داخلية.
مشكلة جلد الذات
حين لا يستطيع الإنسان الوصول إلى السلام الداخلي والتصالح مع الذات، فإنه يتعرض للعديد من المشكلات النفسية التي تعوقه عن العيش في راحة، وأبرز هذه المشكلات التي يقوده إليها افتقاره للتصالح مع النفس هي مشكلة جلد الذات.
تفسيرًا لذلك نقول إن جلد الذات هو اللوم الدائم لها وتوبيخها، نسب كل عمل مشين للذات بل إن أخطاء الآخرين ينسبها الشخص لنفسه، يلوم نفسه على كل الأفعال السيئة التي قام بها ولا يسمح بالغفران أو النسيان، ويرى نفسه سببًا لتصرفات الآخرين السيئة معه، فهو جلد للذات في المطلق.
بالتبعية، يكون الشخص منطوي وخائف يعاني من الخجل المرضي ولا يحب التعامل مع الآخرين، ينزوي في التجمعات ولا يعرض أفكاره ولا يحاول التقرب من أحد، يعاني من نوبات الاكتئاب ويخشى التعامل مع الناس حتى لا يعرضهم للتعامل معه، يرى أنه أسوأ المخلوقات على الإطلاق ويجنب العالم نفسه.
إضافة لما سبق، فهو دائم التقليل من نفسه، لا يقدر أي فعل يقوم به ويرى دائمًا أنه أقل من المطلوب ودون المستوى، يفشل في علاقاته، يخاف المحاولة ولا يعرف في حياته الأهداف ولا الإنجازات حتى وإن حقق منها القليل، فهو يجاهد في سبيل تحقيق شيئًا لا يعرفه.
أسباب جلد الذات
هناك العديد من الأسباب التي تقودنا لجلد نفوسنا، أهمها:
- الأفكار المترسخة: لبعض الأشخاص جعلتهم دائمي الشعور بالنقص، كثرة تلقيهم اللوم في سن صغير ونقد من حولهم لذواتهم لا لأخطائهم وضعتهم في دائرة لا تنتهي من كره النفس.
- المحاولات الجادة لإرضاء الآخرين: من أقسى ما يعانيه المرء، فرغبة المرء في كونه محبوبًا وحاجته للشعور بالحب تقوده أحيانًا لبذل نفسه وإذلالها وفعل كل ما يمكن لإرضاء غيره.
- الجهل بالنفس وقدرها: يجعل الإنسان يميل دائمًا للتقليل من نفسه فهو لا يعرفها، فيظل في حالة نكران دائم لما يمكن أن يفعله ولما وضعه الله فيه من مواهب وإمكانيات.
- الفهم الخاطئ للتلطف مع الناس: ومحاولاته لإسعادهم وكونه شخصًا خفيفًا لا يؤذي أحدًا، فبدون وعي منه يجعله ذلك يؤذي نفسه فحسب ولا يضعها في مكانها الصحيح.
- الخوف من الغرور: أكثر ما يجعل الإنسان يقلل من نفسه، فشدة خوفه من الكبر تجعله يحط من قدره حتى يتطرف في تواضعه وينقلب تقليلًا لذاته ويدخل في دائرة جلدها ولومها.
كيف نعالج جلدنا لنفوسنا؟
علاج التفكير المفرط ولوم النفس يكمن في محاولة الوصول إلى السلام الداخلي والتصالح مع الذات، وذلك يكون عن طريق التعرف عليها ومعرفة مكوناتها ونواقصها، وإبراز قدراتها وتنميتها.
كما يتأتى ذلك بتقدير الخالق ودقة خلقه، ورفع شأن كل ما خلقه – عز وجل- فالله لم يخلقك عبسًا، بل خلقك في أحسن تصوير، وجعل لك من روحه نصيبًا ومن العيش نصيبًا ومن الخير نصيبًا فكيف عساك أن تجحد نعمه بتقليلك من ذاتك التي خلقها فأبدع خلقها؟!
إن خير ما تفعله لتشكره على كل هذه النعم أن تصونها وتعمل على إصلاحها وإسعادها، وأن تعرف ما هي عيوبك وما أسبابها وتحاول بقدر استطاعتك أن تعالجها وتقومها.
يقول الله في كتابه العزيز:
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7 – 10].
فالله قد وهبك نفسك أمانة، اختبارك في الدنيا لتعلي قدرها بالعمل قبل القول وتلقى خير ما فعلت عند لقائك به يوم القيامة، أو تهينها وتوجهها نحو المذموم من الأفعال فتلقى شر ما فعلت، فلا يمكن للمرء أن يتصالح مع ذاته دون محاولته في أن يصلح ذاته.
السلام الداخلي كوسيلة
يمكن اعتبار السلام الداخلي وسيلة حتمية للعيش السليم، ولتحقيق كل ما نتمنى في هذه الدنيا، فإن امتلأ قلبك بالرضا والسلام والتسليم، استقامت حياتك وتصحح مسارك في الحياة وحددت اختياراتك ومساعيك.
السلام الداخلي كغاية
يكون السلام غايتنا حين نعاني من نوائب الدهر وصراعاتنا النفسية، فنجتهد في سبيل الحصول عليه والوصول له، ونحاول عن يقين في أننا نستحق الحياة التي وهبت لنا من الخالق فنطوع كل خطوة في طريقنا لتحقق لنا هذا السلام.
مفهوم الصلابة النفسية
لا تعني أبدًا خلو المرء من الأمراض والاضطرابات النفسية وعدم وجود صراعات داخلية، بل نقصد بها وجود جهاز مناعي نفسي يستطيع مقاومة الأفكار السوداوية، ويحجب عنا خطر الصدمات والأحداث الخارجية.
استكمالًا لذلك، فالنفس قد تضعف بسبب ما قد يؤثر عليها من أحداث، ولكن العبرة من هذه الأحداث أن تستطيع بناء سدها المنيع، وتكون أكثر مقاومة للهزات النفسية فتكون أقوى في المرات التالية، لا ضير من وقوع الإنسان أو استسلامه لبعض الوقت، ولكن الصلابة النفسية هي سرعة استعادته لنفسه من جديد.
لذلك نقول إن الصلابة النفسية تكتسب، ومرة بعد الأخرى تعتاد النفس المقاومة، وتعرف كيف السبيل للتعامل مع التقلبات والتغيرات وتكتشف آفاقًا جديدة لحماية نفسها من الصدمات، فهي فكرة رائعة أن تعرف القليل عن نفسك وتشرع في دراسة القليل من علم النفس وفقهها وسبل العلاج النفسي البسيط.
نصائح ذهبية للصحة النفسية
هناك الكثير من النصائح الواجب ذكرها فيما يتعلق بتحقيق السلام الداخلي والتصالح مع الذات، لعل أبرزها ما يلي:
- تجنب الندم، فالجميع يخطئون، والشيء الوحيد المستحق للندم هو التقصير في جنب الله.
- احرص على التعرف على نفسك، فعلم النفس ليس مجرد دراسات نظرية أو خاصة بدارسيه، بل هو دليلك لترويض نفسك.
- اتبع السيئة بالحسنة، كلما أخطأت ابحث عن الأفعال الجيدة لتعوض ما أسرفت.
- تقبل ذاتك وخطأك، واعلم أن الله خلق الأخطاء لتعلمنا الصواب.
- تقبل الآخرين وضعفهم، وأن قدراتنا ليست متساوية.
- تيقن في الله وفي قدرته على إصلاح حياتك وتبدل حالك، ولكن اتبع ذلك بالسعي والمحاولات الجادة.
- تجنب أصحاب الطاقات السلبية والأفكار السوداوية.
- لا تخجل من اللجوء لطبيب نفسي، فهو نوع من الإحسان للنفس والتي سيسألك الله عنها يوم البعث.
- تعلم الامتنان، وتقدير المنح التي لديك بدون حول منك ولا قوة.
جعل الله للنفس مقامًا كبيرًا، حتى أنه ربط حياة النفس بحياة الناس جميعًا، فيجب ألا نحط من قدر ما كرمه الله، بل يجب علينا صون الأمانة التي وُكلت إلينا وإحسان التصرف، وأن نبذل كل جهد في تطويرها وتزكيتها.